لعل هذا من أحد أكثر الأسئلة الفضولية التي تخطر ببالنا عندما نفكر بالنظام المالي في الدولة. طالما أن الدولة هي صاحبة السلطة ولديها مطابع الأموال – أو تطبع عند دول أخرى – فلماذا لا تطبع المال .. الكثير من المال طالما أن تكلفة الطباعة أقل بكثير من قيمة الورقة النقدية القانونية؟
لأن هذا ببساطة سيودي بها إلى التدمير والإنهيار الاقتصادي. خذ هذا التفسير غير العلمي كمدخل. أنت لماذا تعمل؟ من أجل أن تحصل على مال يعينك في حياتك، تمام؟ لنفرض أنك استاذ مدرسة أو طبيب أو محامي أو رجل أعمال لديك شركة خاصة.. بنهاية الشهر يتحقق لك دخل تنفقه على نفسك وعائلتك. تشتري به الخضروات والفواكه والخبز للطعام، تصلح سيارتك والمكيف في منزلك، تحلق شعرك .. إلخ وتدفع لكل شخص قيمة عمله الذي بدوره يأخذ هذا المال وينفقه في الاقتصاد .. لأنه بالنهاية بشر مثلك ولديه التزامات مثلك.
لماذا لا تطبع الدولة الكثير من المال ونصبح كلنا أغنياء؟ لأنك لو أصبحت مليارديراً ولديك جبال من الأموال لن تجد من يزرع الخضروات ولا من ينقلها ولا من يبيعها لك، لن تجد من يصلح لك سيارتك ولا يحلق شعرك .. لأن الجميع ببساطة أصبح مليارديراً وليس بحاجة للعمل الذي يدر عليه المال.. بالتالي تتعطل الحياة. هذا تفسير غير علمي، أما التفسير العلمي فهو التضخم .. تحديداً التضخم الجامح.
على أي أساس تطبع الدولة المال؟ بمعنى كيف تحدد الدولة كم يجب أن تطبع وتضخ من مال.. قديماً كان يفترض على المصرف المركزي ( وهو مصرف تابع للدولة يدير شؤون العملة ) أن يحتفظ لديه برصيد كافي من الذهب .. بالمقابل يطبع عملات تساوي قيمتها تماماً قيمة هذا الذهب كان المصرف المركزي ملتزم بأن يسلم أي شخص ذهب مقابل العملات التي يعطيها إياه. ومع الوقت لم يعد هذا النظام معمولاً به. واليوم تحتفظ البنوك المركزية ليس فقط بسبائك الذهب بل أيضاَ بعملات أجنبية و سندات ( ديون ) وغيرها من الأمور التي تشكل غطاء لأي إصدار عملات. لكن لا تلتزم الدولة فقط بهذا الغطاء بل تتعداه بشكل كبير .. ويبقى ما يحفظ للعملة قيمتها القانونية هو هيبة الدولة و قوتها في الاقتصاد والعالم من خلال ترسانة عسكرية وقواعد في كل مكان.
يعني أن ورقة الـ 100 دولار لا يعني أن لدى البنك المركزي الأمريكي أشياء ( ذهب – سندات – عملات – .. إلخ ) تساوي قيمتها 100 دولار. من هنا تحدد الدولة كم تطبع من مال بحيث تحافظ على قيمة أو قوة شرائية أو سعر صرف معين ولا تطبع أكثر ولا أقل منه، هذا كله ما عدا طباعة أموال جديدة تدخل مكان العملات التالفة وهي لا أثر تضخمي لها طالما بنفس المقدار تماماً. أي كل سنة لو أتلفت بقيمة مليار فإنها تطبع عملات بقيمة مليار
ماذا لو طبعت الكثير بدون رادع؟ عندما تكون ميزانية الدولة بحالة عجز ( أي مصاريفها أكثر من إيراداتها ) فإن هناك عدة حلول للتخلص من العجز. الحل الأسهل والأخطر هو ما يعرف بالتمويل بالعجز أي طباعة أموال بقيمة العجز وضخها في الاقتصاد. كما قلنا يحدث التضخم وهذا ناجم عن ارتفاع عرض النقود بالاقتصاد أي زيادة كمية المتاح منها بالتالي يصبح في يد الناس المزيد من الأموال كورق لكن بنفس القيمة السابقة. وبالتالي يطلب البائعون المزيد من النقود كورق لكن بنفس القيمة السابقة لقاء نفس بيع نفس السلعة
لنقل ارتفع معدل التضخم في بلد وأصبحت الـ 1000 من العملة قيمتها الفعلية 800. هذا يعني أن السلعة التي كنت تشتريها بـ 800 أصبحت تشتريها بـ 1000. لو كانت معدلات التضخم جنونية فإنك تجد نفسك تدفع مبالغ طائلة نظرياً وذلك ليس بسبب غلاء السلعة انما بسبب انخفاض قيمة عملتك. من يعيش في سوريا تحديداً الآن وسابقاً العراق وربما دول أخرى مثل ليبيا جرب هذه النقطة بنفسه.
مثلاً كنت تشتري كيلو لبنة بـ 50 ليرة، أصبحت الآن تشتريه بـ 300 ليرة .. هذا يعني أن العملة الورقية بقيمة 300 ليرة قيمتها الحقيقية الشرائية هي 50 ليرة .. السبب هو التضخم.
كيف تبدو الحياة في ظل التضخم الجامح: ابحثوا في محرك بحث صور غوغل عن التضخم الجامح كيف أن سيدة ألمانية تحرق أوراق النقود لأن ذلك سيعطيها دفئ أكثر مما لو اشترت بها مازوت .. كيف أن الأطفال يلعبون بأكوام العملة… كيف أن الناس يرمون أوراق العملة في الطريق ويتم كنسها لأن الاحتفاظ بها يكلف أكثر من قيمتها… كيف أن دولة زيمبابوي أطلقت فئات كبيرة جداً من العملة لأن سعر بيضة مثلاً أصبح مليارات وأنت بحاجة لشاحنة من النقود لتشتري بيضة بينما إصدار فئة كبيرة بورقة واحدة سيساعد على هذا الأمر. هل لازلت تريد أن تصبح غنياً؟ بشرط أن يصبح الجميع مثلك؟
اضافة تعليق