اعتاد الناس منذ آلاف السنين في كل زاوية من الكوكب، على الاستمتاع بالتجمع للاحتفال والأكل والشرب وقضاء أوقاتهم. ولطالما كان الشرب واحدًا من أقدم مظاهر الترفيه، إذ استهلك السلف الكحول لمدة 10 ملايين سنة تقريبًا. ومن أكثر معالم الشرب تميزًا عند الوجود في مجموعاتٍ هو التقليد الشائع في جمع الكؤوس معًا وقرعها ببعضها البعض، ويتبع ذلك في العادة كلمة “نخبك”،أو خطاب، أو يصحبها كلمةٌ مثل “في صحتك!” “سلينت!” و “كامباي!”.

والسؤال الأهم، من أين أتى هذا تقليد قرع الكؤوس؟ وما الغرض المحتمل الذي يؤديه؟

إجابة قصيرة: تغيرت الطقوس مع الوقت، وعلى الرغم من ذلك، يهدف قرع الكؤوس عند الشرب الجماعي إلى تقوية روابط الصداقة والثقة والأهداف المشتركة، ودائمًا ما كانت الحقيقة وراء تبادل الأنخاب وقرع الكؤوس مشوبة عبر التاريخ، لذلك قد تطول بعض التوضيحات.
إذا فكرت في هذا الموضوع، وقمت ببحثٍ سريع، أو سألت نادلًا، ستجد مجموعة واسعة من التفسيرات لعادة قرع الكؤوس، وواحدةً من أكثر التفسيرات شيوعًا، هي أنها استخدمت في الماضي لطرد الأرواح الشريرة، كما كان يُعتقد بأن لدوي الأجراس وقرع الكؤوس بعض التأثير على القوى الخارقة للطبيعة في العالم، ويبدو ذلك سخيفًا بعض الشيء، ولكن اعتقادًا كهذا دام لمئات السنين، وما يزال يجزم الكثير من الناس بأنه التفسير الأصلي.

ويعتقدون آخرون بأن ضرب كأس أحدهم بالآخر يقصد به سكب محتويات النبيذ والمشروبات في كأس الآخر ما يمنع أي محاولات بالتسميم، وعلى الرغم من تعميم عادة قرع الكؤوس كطريقة عملية للتخلص من الأعداء، كما لوحظ بالأكثر في مسلسل صراع العروش في الآونة الأخيرة، لكن المنطق وراء هذا التفسير لا يعقل، فيجب أن تكون الكؤوس ممتلئة وذلك ينتهي بإهدار الكثير من الشراب، بالإضافة إلى أرضية متسخة، وبالتأكيد يكون ذلك منطقيًا عندما نفكر بقرع كؤوس الجعة عند قراصنة الفايكينغ، ولكنه لا يفسرهذه العادة في حفلات العشاء الأنيقة ولا في الكلمة الملقاة المرافقة.
ويرتبط ذلك أيضًا بالتفسير المسبق، بأن قرع الكؤوس كان تأكيداً رمزياً بأنه من الآمن الشرب معاً، حتى من دون تذوق شراب الآخر أولاً، ولا يزال هذا مرتبطٌ بعض الشيء بنظرية السفاح، وغير صحيحٍ على حد سواء، ولكنه قريب من التفسير الحقيقي.

تاريخ تبادل الأنخاب: ما أن شكل البشر مجتمعاتٍ، حتى أصبح إنشاء الطقوس والنشاطات الشعبية ليس ببعيد، ومنذ آلاف آلاف السنين كان هذا النوع من الاحتفالات او الطقوس يُحكم بشرب الكحول التي عادة ما تأتي من وعاء شعبي مشترك، ورمز ذلك إلى وحدة المجموعة او القبيلة او العائلة، كما وأشار إلى الحميمية والولاء لبعضهم البعض، سواء من خلال الحفاظ على الموارد او من خلال عقلية اكثر توجهًا نحو المجموعة، وكانت هذه الممارسة قائمةً منذ الاف السنين، كما وتتلى بعض الكلمات اللطيفة والصلوات والخطابات الفخرية قبل تمرير هذا الكأس.
وامتد هذا العرف الى اوقاتٍ اكتر حضارية، وما زال الشرب من وعاءٍ مشتركٍ مشاهداً حتى الآن في بعض الثقافات، لا سيما في مراسم الزواج، كما كان جلب وعاء الشرب الخاص بك في ذلك الوقت يظهر عدم ثقةٍ في المضيف وبذلك تهدم حفلات العشاء.
ومع ذلك، استمرت فكرة الشرب مع مرور القرون، ولكن الشرب من كؤوس منفردة اصبح نمطًا أو موضة، لأسباب صحية وغيرها، وعوضًا عن ذلك، وكاحترامٍ لفكرة الشرب من وعاءٍ جماعي للاحتفال بشيءٍ ما او لإظهار الوحدة، جمعوا كؤوسهم معًا مجددًا، فجُمع الناس معًا مرةً اخرى من خلال كؤوسهم، وأعيد اتصال شرب الكحول معًا، كما كان من قبل، فعادة قرع الكؤوس ما هي إلا لإنشاء التواصل والاحترام والاحتفال بهما.

للأنخاب تاريخٌ مثيرٌ للاهتمام، و الكلمة “نخب” ذاتها تبدو غريبةً بعض الشيء والتي تعني نوعًا من أنواع الخبز، إذ وُضِع خبز قديم في النبيذ في بعض المناطق والأزمنة الاوروبية لتحسين مذاقه، فكان كثير من النبيذ غير الرخيص، شديد المرارة او الحموضة، إلا أن وضع قطعةٍ من الخبز فيه يساعد في جعل مذاقه افضل، وعلاوةً على ذلك يطري النبيذ قطعة الخبز تلك، فتمتص حتى آخر المتبقي من الكحول، الأمر المهم في وقت كانت فيه مصادر الطعام والشراب محدودة.
وهكذا أصبح وضع قطعةٍ من الخبز في الوعاء الجماعي عادةً خلال مراسم الزفاف، وبمجرد شرب جميع الحضور من الوعاء، ينهي الزوجان المشروب ويأكلان قطعة الخبز، وتماما كما في السابق، يلقي العديد من الحضور أو المشاركين في الزيجان الحديثة والتجمعات خطابٌ يليه نخب، إذ ترفع كؤوس المدعوين ويرتشفوا منها كدعمٍ للزوجين والخطاب الذي تم القاؤه.

قصة “في صحتك!”: الجزء الاخير من هذا اللغز، هو الظاهرة المنتشرة حول العالم بقول كلمة عند قرع الكؤوس بانسجام أو تناغم، ويبدو أن لكل بلٍد كلمة مختلفة من في صحتك!، و كامباي!، و سلاينتي!، و سالود!، إلى بروست !، وسين سين !، وسكال! و نا زدرافي!، وجميعنا لدينا طريقتنا المفضلة لإعطاء الشرف لآخر قرعةٍ للكؤوس، ولتفسير هذا بعبارةٍ بسيطة، خذ “في صحتك!” كمثال.
وأتت هذه العبارة من “أتمنى لك صحةً جيدة”، أو ” كن بصحة جيدة”، التي هي بالأساس تمني الصحة والسعادة لمن كنت تشرب معه أيًا كان، والرغبة بالاحتفال لكونكم سويًا، مع تمني الأفضل للجميع، كما أن العديد من الحضارات في السابق كالحضارة الرومانية والحضارات الأسكندنافية، كانوا يمجدون آلهتهم بعباراتٍ وخطبٍ قصيرة، ويكرمون الموتى ويحتفلون بالأحياء، وهذا ما نقوم به اليوم، ويقوم به معظم الناس تقريبًا في كل بلدٍ في العالم، وعلى اختلاف كلمة “بصحتك” بين الشعوب، جميعها تتعلق بصحة وسعادة من حولك.
وفي النهاية، لا تعبر عن ضجرك في المرة القادمة التي تكون فيها في حانةٍ ويرفع أحدهم نخبًا، فأنت تشهد واحدة ًمن أقدم التقاليد البشرية، لذلك التقط كأسك وابحث عن أحدهم لتقرع كأسك معه واحتفل بالحياة!

قصي أبوشامة

قصي أبوشامة

قصي أبوشامة
مهندس مدني من الأردن، أسعى إلى زيادة الوعي في التقدم المعرفي والمنهج العلمي وتعزيز بنية الفرد العربي ثقافياً وإنسانياً

الاطلاع على جميع المقالات

اضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة مؤخرا

error: Content is protected !!